mercredi 31 décembre 2008

المظاهرات التقليدية فقدت قدرتها على التأثير


تنفض المظاهرة الغاضبة في قطاع غزة على استمرار الحصار والقتل الدموي دون أن تعكس معنى أن تزهق روح، أو تفقد طفلة أسرتها كاملة، أو معنى كلمة "حصار" لمليون ونصف المليون مواطن، دون أن تضيف أو تحقق صورة واحدة جديدة لمعنى أن يتحول قطاع غزة مثلا إلى أكبر حقل رماية على أجساد البشر والبيوت.. إلى أكبر سجن في العالم والتاريخ، ودون أن يعرف أو يتذكر بعض المشاهدين، عربا وأجانب، أن هذا المكان هو آخر مكان في العالم يعاني من الاحتلال، حتى مسيرات الشهداء التي تخرج بشكل يومي ولحظي في أحيان كثيرة تظهر لنا بشكل آلي وميكانيكي فيها من الرهبة أقل القليل من سيرة الاستشهاد ذاتها.
ينقض المواطنون الغاضبون على السفارة الفلانية، فتنقض الشرطة عليهم وقوات حفظ الأمن دون أن يصلنا كمشاهدين متخمين بأمورنا الشخصية حقيقة المعاناة وحجم الألم في صدور هؤلاء المؤمنين بإنسانيتهم، تنفض إضرابات ومظاهرات، وتأتي إضرابات ومظاهرات، ولا شيء يعلق بالذهن في ظل تكرار الصور والمشاهد وتخمة في الأحداث والتفاصيل وكأنه لا حياة لمن تنادي!!
لكن السؤال الذي يخصنا جميعا بصورة أو بأخرى ويلح علينا هو: كيف يجب أن ننادي؟
الإبداع
فالملاحظة الهامة التي تضعنا أمام تحد حقيقي، هي أن "الإبداع" بعموم تعريفاته وأبسطها يغيب عن جميع أشكال الفعل الاحتجاجي على طول الساحة العربية، وكأنه كتب على المحتجين والمضطهدين والمظلومين والفقراء أن يبقوا يجترون الأساليب القديمة والتقليدية للتعبير عن غضبهم ورفضهم لواقعهم.
فبذات الصور وبذات التقليدية وبذات الشعارات، وبذات الوجوه تنفض المسيرات والاحتجاجات الكثيرة في عموم المنطقة العربية دون أن يلفت انتباه وسائل إعلامية عربية وعالمية، إلا ما ندر، ودون أن نرى أساليب وطرائق وأشكالا جديدة للتعبير عن ذلك الألم القابع في صدور الضحايا، ودون أن نلتمس جانبا مغايرا للمعاناة التي لها من التفاصيل ما يضيق الإنسان بحمله.
يكون الجمع المحتشد قد راهن على خروجه وفعل احتجاجه لنقل القضية أو المشكلة بغية خلق التأثير وإحداث الخرق المرتجى في العلاقة التي تحكم المحتل بالمحتل، المحاصر بالمحاصِر، الظالم بالمظلوم، المتألم بمصدر الألم.
ولأسباب منها التكرار ومنافسة الأخبار ونمطية التحركات الشعبية ينعدم الأثر والنتيجة، في ظل ما يعتمل الجلاد من قدرة عالية على عدم الانتباه وتبلد الإحساس، ونفي الضحايا، ومن ثم تحويلهم إلى جلادين ورعاع وفئات ظلامية وأعداء الأمن العام والقومي...
الحشد هو البداية
وبمقدار درجة الاستفزاز الناشئة من ذلك، وتحديدا ما يرافقه من إجراءات الأمن على اختلافها وتوصيفها السلبي لطبيعة هؤلاء الراغبين بحياة كريمة وإنسانية، واستمرار الحصار والظلم والتجاهل وطرق تطبيقهما وآليات ذلك أكثر تقليدية التحركات الشعبية ومن قبلها العقلية، سواء الحزبية الفصائلية أو الشعبية التي تقف خلفها، وكأن عقلية القوى المقاومة والرافضة والمطالبة بالأفضل كحق إنساني تكلست في حدود تجميع حشد من الناس وسوقهم إلى مكان المسيرة والسلام. صحيح كنا في السابق نتمنى التجمع الذي كان في حد ذاته رسالة وإنجازا، لكن بعد التطور الحاصل في ذلك وخروج قطاعات كبيرة من المواطنين مطالبين بحقوقهم يجب أن يتطور الأمر أكثر.
فأمام تلك العلاقة الصعبة والواقع الاحتجاجي المتكلس شكلا ومضمونا دوما ما ينتابني شعور عميق بمقدار التحدي الملقى على عاتق المظلومين والمضطهدين والضحايا في عموم الأرض، ولأننا جزء كبير من هؤلاء، كعرب ومسلمين، فإن الأمر هنا يكون مضاعفا ومقلقا معا، ومبرر ذلك الشعور هو حجم ما هو مطلوب من هذه الضحية في سبيل الإعلان عن ظلمها في ظل تكرار حالات الظلم واستمرارها وتناسي العالم ونحن لها، وأنا المسكون في "الشكل" أو الطريقة الذي أراه لا ينفصل عن المضمون، وأحيانا يكون هو الرسالة أيضا بحد ذاته.
تفكير إبداعي يلزمنا كي نستمر في عرض قضايانا وإثارتها في ظل تكرار ألمنا وجرحنا واعتياد الناس عليه.. تفكير يكشف كل جوانب عذاباتنا ونتائجها وتفاصيلها.. تفكير يبقينا على وعي بها ويقظة تجاه تطوراتها وامتداداتها، نحن أصحاب هذا الألم أولا وكل المهتمين بمقاومة الظلم ثانيا، وهو تفكير لا يقل نبلا عن فعل مقاومة الظلم ذاته، فالأمم الحية والمقاومة والراغبة بالتغيير هي بالضرورة أمم مبدعة، مبدعة في لحظتها التاريخية، وفي قدرتها على البقاء وطلب الأفضل، والتحرك بالطرق المناسبة والحضارية لإحداث هذا التغيير أو ذاك برغم كون الرياح تأتي كثيرا بما لا تشتهي السفن.
اللاعنفية
أجزم أن التغيير الذي تنشده المجتمعات العربية بحاجة إلى تغيير في عقلية التحرك والتحشيد الشعبي.. بحاجة إلى لفت انتباه بطرق مختلفة بمقدار ما يكون مضمون التحرك فكرة مبدعة فإن شكله كذلك يجب أن يكون محط إعجاب العدو قبل الصديق، وقادرا على جعل المتناسين والصامتين يلتفتون للأمر ويعلنون دهشتهم ودعمهم.
فكم أشعر بالغبطة عندما أشاهد مسيرات عالمية تنظم بطرق تثير الاهتمام، فمن حمل يافطة واحدة وبخط واحد وبرسالة واحدة، إلى لبس زي واحد، إلى تمثيل لأحداث معينة مقصودة، إلى طرق الأدوات المنزلية، إلى إضاءة الشموع، إلى النوم على الشوارع، إلى القيام بماراثون رياضي، إلى توزيع ورود، إلى استحضار حوادث تاريخية وخلق نماذج لها.. إلخ، في حين ينتابنا الحزن عندما نرى مسيراتنا ومظاهراتنا.
فالمقاومة اللاعنفية - وهذا لا ينفي خيار المقاومة المسلحة في الدول المحتلة - التي تنتهجها مجموعات كثيرة في دول عربية يجب ألا تقتصر على التحرك الشعبي في مسيرات والسلام؛ فذلك لا يترك إلا صورة قليلة في ظل زخم المشاهد اليومية، وبالتالي تبرز الحاجة إلى العمل على تطوير أشكال الفعل الاحتجاجي لتناسب اللحظة، وتحديدا عصر الصورة الذي نعيشه، فيجب أن تكتسب أعمالنا قيما إبداعية، ولا يفهم من كلامي أن يتحول الناس البسطاء إلى مبدعين وفنانين برغم أن هذا ترف نتمنى تحقيقه، لكن يجب أن تستعين الجهات التي تقف خلف هذه الاحتجاجات بأناس مبدعين يمتلكون القدرة على تقديم أشكال تعبيرية قادرة على نقل حجم المعاناة، وخلق التعاطف والاهتمام والإعجاب أيضا.
قبل أشهر ويزيد، حيث كان حديث الحصار يطغى ويشي بفعل الموت الأبيض القادم في حرائق متكررة، نظمت اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار تظاهرة مختلفة لتعبر عن واقع حالة الصناعة الذي تضرر في قطاع غزة بفعل الحصار الإسرائيلي.. كانت التظاهرة مختلفة حقا ومبشرة؛ حيث هناك مقبرة رمزية لمئات المصانع المدفونة، كان هناك 40 قبرا بإمكانيات اللجنة البسيطة يقابلها تذكار لشهداء الحصار، كتبت على كل قبر اسم المصنع وعدد العمال العاطلين عن العمل ومجموعة زهور وعلم فلسطين لف على الشاهد، فكرة الفعل المختلف تتجاوز في الدلالات الموحية التقليدية؛ فالراقدون في هذه القبور ليسوا البشر بل هي مثال لمئات المصانع المقتولة والمدمرة والمتوقفة عن العمل بفعل الحصار، وهي فعالية حضرتها وسائل الإعلام بكثافة، كما أنها ترسخت في أذهان المشاهدين.
كما لجأت ذات اللجنة قبل فترة قليلة إلى تنظيم مسيرات لكسر الحصار جاءت مختلفة وغير تقليدية، فشكلت حوائط بشرية طويلة على طول الحدود التي تسيطر عليها إسرائيل في قطاع غزة، ومسيرات لأطفال عراة، وأخرى مسيرات شموع.. إلخ، وهو اتجاه مبشر ينبغي تطويره والاستمرار عليه.
هل يمكن أن تنظم مسيرة جماعية في غزة تخرج فيها جثامين 300 شهيد فلسطيني معا، ملفوفين بقماش أبيض، ويسير بهم المواطنون بهدوء جنائزي يليق بأرواحهم التي صعدت للسماء، يتقدمهم أطفال يحملون وردا وفلا ويتبعهم مقاتلون يؤكدون على استمرار نهج المقاومة؟!
لكي لا نستمر في القول "لا حياة لمن تنادي" علينا التجديد في شكل النداء ذاته، وهذا يحتم في جزء من الحل نسج علاقات مع المبدعين والفنانين في المجتمعات العربية الذين عليهم أن ينزلوا عن الشجرة كي يقدموا فنا ملتحما مع الجماهير ويعبر عنهم، ويكونون هم جزءا منه وهو جزءا منهم، يمدونهم بالأفكار والتصورات والخطوات والأشكال الاحتجاجية الأرقى والأكثر لفتا للانتباه، وعندها فقط لا يجدر أن يخاف فنانونا من لفظة فنان شعبي أو حتى شعبوي؛ فالفن الحق والفعل الإبداعي الأرقى هو الذي يكون على تماس مباشر مع حياة الناس، ومكونا مهما في صك مستقبلهم وصياغته.
القوى الشعبية في العالم العربي أمام تحد حقيقي، هو مأزق إن جاز لنا القول، فكيف نقنع وسائل الإعلام التي لها منطقها في التغطية والنشر؟ إنك أنت ولكن بشكل جديد، كيف تلفت انتباه العالم؟ كيف تفتح ثغرة في الحائط الكبير في علاقة الجماهير الصامتة معك؟ كيف تحقق فعلا مزدوجا إبداعيا واحتجاجيا معا، فالشكل من قيمة الفعل ذاته.. وبالتالي يكون السؤال: كيف ننادي؟ ذلك جزء مهم من المسألة.

Aucun commentaire: